Saturday, March 19, 2011

لا شيء



عندما يقترب الموت ، فإن الألوان الملقاة على الأشياء تزداد دفئاً وهجاً ويثقل الهواء ويزدحم الفراغ وتشعر بأنك تفيض دمعاً من الداخل ، وأن الخارج يشيعك

**

أشعر بالشوق إلى ليدز .. الأغاني التي كنت أسمعها هناك حشرت في جيوبها الرذاذ والبرد والخضرة والوجوه! رتقت ثيابها بالشوارع والطوب الأحمر ، وخضبت أطرافها بمشاعري المتطرفة هناك

أذكرها بتفاصيلها الغريبة .. بروائحها وانفعالاتها .. وأتوق إليها كما لم أتوقع يوماً!

فهل يمكن لأغنيتي أن تحشرني في جيبها أيضاً!؟

**

زرت اليوم جدي لأمي في دكانه الصغير كما زرت شقيقه بالأمس .. ودكان جدي هذا يعيدني لأيام بعيدة عشتها في طفولتي واخرى سحيقة لم أعشها يوماً ، يبيع جدي كل شيء! كالدكاكين القديمة في رفوف خشبية مرتبة بعشوائية! ألعاب ومواد غذائية وحلوى ودفاتر واحذية مطاطية ومستلزمات منزلية

وتفوح من أركانه رائحة مميزة ، كل هذا يجعلني لا أفكر إلا في أن جدي تعمد أن يكون دكانه بهذه الصورة ليحافظ على ما بقي من ذاكرته مجسدةً أمامه ، وتعمد أن يحتفظ بدكانه رغم احتجاج الجميع لعدم الجدوى وانعدام الحاجة لهذا السبب أيضاً!

لملم جدي ثوبه الواسع وجلس على الكرسي مقابل والدتي ، يحدثها واراقب لحيته البيضاء الطويلة ورأسه الأصلع إلا من بعض الشعيرات تلمع كسرابٍ بعيد – كما عينيه- تحت شمس المغيب المتسللة من الباب .. يصمت طويلاً احتجاجاً عنيداً عندما لا يعجبه ما يسمع ، وإن كان في مصلحته قبل أن يشيح ببصره بعيداً ، يذكرني بنفسي فابتسم واتابع بنظري الأطفال يتنقلون بين صناديق الحلوى ، تقول أمي أنني كنت هكذا ، أدخل البقالة فأتوه بين الصناديق لا أعرف ماذا أحمل وماذا أترك قبل أن أقرر شراء كل شيء!

يرمقني جدي بنظرات طويلة بين الحين والآخر ، أعرف معنى بعضها واستنكر الأخرى .. أتأمل ملامحه واسافر بعيداً جداً حيث ابتسم وأحزن وأتفائل وأغضب!

وجودي أنقذ أمي من لائحة عتاب تعود والدها أن يمطرها بها كلما زارته ، اكتفى بالترحيب بي ومناقشة أحوال الطقس والمسجد الجديد!

انتظره جدي طويلاً جداً وتمنى لو صلى فيه التراويح رمضان المنصرم ، لكنه لم ينته إلا منذ شهور قليلة ، ورغم الوهج الجميل الذي يسرده بأنواره الجديدة على بيوت المنطقة كل ليلة منذ مدة إلا أنهم لم يحصلوا بعد على إذن إقامة صلاة الجمعة فيه ولم يتم إفتتاحه رسمياً ، يزعج هذا الأمر جدي للحظات ثم ينصرف ليحكي بسعادة عن اتساعه ومرافقه والخدمة الجليلة التي سيؤديها للمصلين ..

المصلين الذين يعرفهم وعاش بينهم طويلاً ، لكنه لا يحمل لهم بالضرورة الود دائماً ، وهو غريب الأطوار فيما يتعلق بالصلات الاجتماعية ، يفضل الانعزال ومواجهة محاولات الآخرين للتقرب بسياط لا ترحم من لسانه وعينيه! وكما اعتدنا أن نقول ، دم جدي حارٌ جداً!

أما جدتي ، زوجته ، فقد توفيت في يومٍ يشبه البارحة منذ اثنتين وعشرين عاماً ، لذا لا اذكر عنها أي شيء .. وأتمنى لو كنت أفعل .. رأيت صورتها اليوم معلقة في بيت جدي .. وصورة أمها ، جدتي الأولى ، تلك التي سمعت عنها الكثير للغاية وورثت عنها أيضاً ..

**

تعد الحياة بالكثير ، دون أن تنتبه لوزن وعودها تلك على ميزان كفوفها ..

تعد الحياة بالكثير .. الكثير مما نريد ، لكنها لا تستطيع الوفاء بكل شيء ، فهل نلوم قلوبنا ان اتكأت على جذوع الأماني المكسورة ووقعت؟

الجمعة – من قلب الطوفان

18 مارس 2011


Tuesday, March 15, 2011

ترقص .. تدور .. ترقص 2


قبل أيام رأيت في حلمي فراشة ، واقترحنا أن نتنافس في مد ايدينا إليها ، على أن يفوز منا من لا تطولها يده فتؤذيها!

ولا أدري لماذا بدأت بالحلم ، ولكنني لا أدري دائماً أي شيء .. ولا أراني أكترث

لكن مزاجي لا يبدو لي على ما يرام ، يتصارع بي أقوام وأقوام وأجدني أشارك حينا واكف أحياناً أخرى ولا أطلب إليها أن تكف ولا يبدو لي أنها ستفعل

ومن حولي تسيل الوديان وتغرق الحدود بالطوفان فتمتزج وتتداخل وتتنافر ، وتهب الزوابع وتلتهب الأحراش ،وبينها أقف بلا حراك ، ليس لأن أحدها لا يهمني ولكنها جميعاً تشدني بذات القوة فتزيدني رسوخاً حيث أنا بينها تتقاتل مني أحشائي بفعل الشد والجذب ، أتألم ولا أبكي ولا أتجهم

ولا أذكر كيف تصير ملامحي ، وحده التعب يتصبب مني ولا أملك مسحه وتجفيفه ..

اشعر بالدوار وبرغبةٍ عارمة في توجيه خطاب طويل .. لكنه غائم التضاريس ومجهول المخاطَب ، أعمى لا يستطيع تلمس طريقه للخروج ويبقى يحوم في رأسي دواراً جديداً

واشعر بأن العالم كله سقط على رأسي بينما كنت أمشي ، تتوسلني وجوهه أن لا اسقطها لتتهشم أرضاً ، أحاول غرس قدمي في الأرض الزلقة تحتي وأقاوم .. تثور أطرافي المنهكة وأقاوم .. تتداعى روحي وأقاوم .. فهل يستحق ما أقاوم لأجله روحي واطرافي؟ وما يكون أصلا ما أقاوم لأجله ! لا أدري!

ولا أذكر الوجهة التي كنت أمضي إليها ..

فلعل العالم الثقيل على رأسي تخفف حتى صار الفراشة ليتمكن من النفوذ في مسامي إلى حيث يعجن رأسي أحلامه .. وأحلامي وحدها كانت أذكى مني !


قبل 22:13 بدقائق

سفينة نوح – 15 مارس 2011

Sunday, March 6, 2011

تدور .. وترقص

قيل لي بأن أكتب وأن لا أدع للحياة فرصة لتقييدي والفتك بأطرافي الممدودة للأدب وأرواحه الجميلة ، وجئت أجرب الآن ، أكرمش قدمي وأمدهما أزيحها كبطانية ثقيلة حتى تتدلى بعيداً وانكشف على نفسي دونها ، وحين أفعل لا أجد أمامي سوى الفتاة الصغيرة ذاتها ترقص حول نفسها في دوامات لا تنتهي بذراعين ممدودتين

تدور لا تحملها أرض ولا تنتعلها سماء ، الفراغ الذي أتهم نفسي به أبداً ، أنكر عليها كل ما تقرأ وترى ، أنكر عليها حواسها الخمس ، وتبقى الطفلة ، غير آبهةٍ بفحيح اتهاماتي يصوب ألسنته المحزمة بالأنياب تجاهها ، تدور وترقص .. وترقص وتدور!

تحاول الحياة البطانية أن تتسلق أطرافي ثانية ، أنفضها وتسقط ولا تأبه الطفلة .. ثم تبدأ بالغناء ، فلا أسمعها ولكن أراها تغوص بين ألحان زرقاء بلون السماء ، أبلل أذني بصلاةٍ عميقة ، وأعيد عجنها لتستطيل أكثر لكن شيئاً لا يصل ، فتذبل أذني مظلةَ يأسٍ وتخبو ، تتمسك بها الحياة علها تطفو ، أنفضها ولا تتوقف الطفلة

تنمو خلفها تراتيل ، وهي اشجاري المفضلة تصطف على طول جدار منزلنا وتترنم تمايلاً ، تنمو على اللحن ، تتشربه وتورق ، تتشربه فتنخطف ترنيمةً طويلة ، وترقص الطفلة .. ترقص

عندما أزيح الحياة كما يطلبون ، فأنا لا أرى سوى الطفلة تدور حول نفسها .. أرى ألحانها الزرقاء .. وأرى تراتيل

ومن حيث أقف ، يصعب علي فك طلاسم دورانها ، وتبيان مركزه

ولا أدري ماذا أكتب!!

22:45

5 مارس 2010

سفينة نوح