عندما يقترب الموت ، فإن الألوان الملقاة على الأشياء تزداد دفئاً وهجاً ويثقل الهواء ويزدحم الفراغ وتشعر بأنك تفيض دمعاً من الداخل ، وأن الخارج يشيعك
**
أشعر بالشوق إلى ليدز .. الأغاني التي كنت أسمعها هناك حشرت في جيوبها الرذاذ والبرد والخضرة والوجوه! رتقت ثيابها بالشوارع والطوب الأحمر ، وخضبت أطرافها بمشاعري المتطرفة هناك
أذكرها بتفاصيلها الغريبة .. بروائحها وانفعالاتها .. وأتوق إليها كما لم أتوقع يوماً!
فهل يمكن لأغنيتي أن تحشرني في جيبها أيضاً!؟
**
زرت اليوم جدي لأمي في دكانه الصغير كما زرت شقيقه بالأمس .. ودكان جدي هذا يعيدني لأيام بعيدة عشتها في طفولتي واخرى سحيقة لم أعشها يوماً ، يبيع جدي كل شيء! كالدكاكين القديمة في رفوف خشبية مرتبة بعشوائية! ألعاب ومواد غذائية وحلوى ودفاتر واحذية مطاطية ومستلزمات منزلية
وتفوح من أركانه رائحة مميزة ، كل هذا يجعلني لا أفكر إلا في أن جدي تعمد أن يكون دكانه بهذه الصورة ليحافظ على ما بقي من ذاكرته مجسدةً أمامه ، وتعمد أن يحتفظ بدكانه رغم احتجاج الجميع لعدم الجدوى وانعدام الحاجة لهذا السبب أيضاً!
لملم جدي ثوبه الواسع وجلس على الكرسي مقابل والدتي ، يحدثها واراقب لحيته البيضاء الطويلة ورأسه الأصلع إلا من بعض الشعيرات تلمع كسرابٍ بعيد – كما عينيه- تحت شمس المغيب المتسللة من الباب .. يصمت طويلاً احتجاجاً عنيداً عندما لا يعجبه ما يسمع ، وإن كان في مصلحته قبل أن يشيح ببصره بعيداً ، يذكرني بنفسي فابتسم واتابع بنظري الأطفال يتنقلون بين صناديق الحلوى ، تقول أمي أنني كنت هكذا ، أدخل البقالة فأتوه بين الصناديق لا أعرف ماذا أحمل وماذا أترك قبل أن أقرر شراء كل شيء!
يرمقني جدي بنظرات طويلة بين الحين والآخر ، أعرف معنى بعضها واستنكر الأخرى .. أتأمل ملامحه واسافر بعيداً جداً حيث ابتسم وأحزن وأتفائل وأغضب!
وجودي أنقذ أمي من لائحة عتاب تعود والدها أن يمطرها بها كلما زارته ، اكتفى بالترحيب بي ومناقشة أحوال الطقس والمسجد الجديد!
انتظره جدي طويلاً جداً وتمنى لو صلى فيه التراويح رمضان المنصرم ، لكنه لم ينته إلا منذ شهور قليلة ، ورغم الوهج الجميل الذي يسرده بأنواره الجديدة على بيوت المنطقة كل ليلة منذ مدة إلا أنهم لم يحصلوا بعد على إذن إقامة صلاة الجمعة فيه ولم يتم إفتتاحه رسمياً ، يزعج هذا الأمر جدي للحظات ثم ينصرف ليحكي بسعادة عن اتساعه ومرافقه والخدمة الجليلة التي سيؤديها للمصلين ..
المصلين الذين يعرفهم وعاش بينهم طويلاً ، لكنه لا يحمل لهم بالضرورة الود دائماً ، وهو غريب الأطوار فيما يتعلق بالصلات الاجتماعية ، يفضل الانعزال ومواجهة محاولات الآخرين للتقرب بسياط لا ترحم من لسانه وعينيه! وكما اعتدنا أن نقول ، دم جدي حارٌ جداً!
أما جدتي ، زوجته ، فقد توفيت في يومٍ يشبه البارحة منذ اثنتين وعشرين عاماً ، لذا لا اذكر عنها أي شيء .. وأتمنى لو كنت أفعل .. رأيت صورتها اليوم معلقة في بيت جدي .. وصورة أمها ، جدتي الأولى ، تلك التي سمعت عنها الكثير للغاية وورثت عنها أيضاً ..
**
تعد الحياة بالكثير ، دون أن تنتبه لوزن وعودها تلك على ميزان كفوفها ..
تعد الحياة بالكثير .. الكثير مما نريد ، لكنها لا تستطيع الوفاء بكل شيء ، فهل نلوم قلوبنا ان اتكأت على جذوع الأماني المكسورة ووقعت؟
الجمعة – من قلب الطوفان
18 مارس 2011