السبت 20 مارس 2010
19:54 هيثرو – لندن
لا زلت أنتظر موعد دخولي الطائرة وتحليقها بي إلى منزلي الجميل ووجوه أحبتي
الوقت يمر ببطء شديد .. الكتاب الذي أحضرته معي لقتل الوقت مقزز للغاية ، أثار بي توتراً وانزعاجاً شديدين
استيقظت اليوم الساعة 09:40 صباحاً، كنت متعبة بعد ليلةٍ قضيتها في ترتيب غرفتي وتوضيبها، لكن ما إن تذكرت أنني سأسافر اليوم حتى نسيت تعبي كله! خفق قلبي بقوة وشعرت بسعادة لدرجة أنستني الحلم الطويل الذي رأيته!
وضبت بطانيتي في كيس كبير لحفظها من الغبار وكذلك مخدتي ودميتي الحبيبة "فيلو" !
ليس سهلاً علي أبداً أن أتركها خلفي وهي التي لا أنام دونها أبداً كطفلةٍ صغيرة .. احتضنت فيلو بين ذراعي وشممت رائحته المميزة والتي سرعان ما أعادتني للحلم الذي رأيته
ففيه كان طفل صغير ، مريض ربما ، يبكي ويرفض أن أتركه .. وكانت له تلك الرائحة ، أكان أنت إذن يا فيلو؟ ترفض أن أتركك وحيداً خلفي هكذا، محبوساً في كيسٍ أسود كبير في خزانة ملابسي مع مخدتي الفضائية الزرقاء؟
سيمضي الوقت سريعاً وأعود، فلا تنزعج .. وسأضم ذراعيّ على صدري كل ليلة وكأنك بينها .. ولابد سأشتاق إليك كثيراً أيها الصغير!
بعد إنهاء آخر ما توجب علي القيام به ، جلت ببصري عبر النافذة ، كانت السماء تمطر في الخارج ، أتراها تبكي لرحيلي؟ أم أنها تغسل أرضها من خطواتي عليها؟ أو هي ببلادة شعبها تقوم بواجبٍ اعتادت عليه لا أكثر !
وصلتني حينها رسالة قصيرة من صديقتي سارة (راجعة للأبد أو بس إجازة؟)
أعجبني تساؤلها ، لو تعلمين يا صديقتي !
أنا نفسي لا أعرف ، الأوراق وتذكرة الطائرة تقولان أنني سأعود ، ولكن إحساس عنيدٌ في داخلي يشكك ، فهل لن أعود؟
طلبت سيارة الأجرة لتأخذني إلى السينما، فهناك التقيت زوجة عمي لأسلمها مفتاح غرفتي وبعدها اتجهنا لمحطة القطار.. لم أنتظر هناك ، اتجهت من فوري للقطار الكبير .. ومقعدي المحجوز مسبقاً
لسوء حظي ، شاركني الجلوس حول الطاولة شابين وفتاة سرعان ما تغيروا جميعاً ليجلس مكانهم أشخاص آخرون .. وبقيت أنا في مكاني أقرأ الرواية بين يدي ، ندمت على اقتنائها كثيراً ، لكنني بقيت أقرأ .. تجاوزت المئة صفحة ، أقتل بها وقتي فقتلتني هي وهشمت جزءً كبيراً من العالم الأبيض الذي كنت أرسمه في داخلي!
عبر النافذة ، وبينما كنت أجول ببصري من حين لآخر ، كنت أرى غابات ومساحات خضراء شاسعة وأنهار وحقول وخيول وأسراب طيور! كنت أرى بيوتاً صغيرة وأخرى كبيرة .. جنةً صغيرة تنام بهدوء تحت أطنان من الغيوم الحبلى بالمطر
لكن الأمطار هنا تجعل كل شيء يبدو متسخاً وتعتم المكان أكثر .. بينما مطر بلادي يجعلها تبدو كفتاة اغتسلت للتو استعداداً لعرسها ، وتتشرب بلادي الماء فتغدو أجمل وأنضر وأبهى للعين !
كان القطار مكتظاً جداً، فكما فهمت، أُلغيت رحلة متأخرة فاكتظ هذا القطار .. كان هناك ركاب اضطروا للوقوف أكثر مما جلس البقية في المقاعد الضيقة، وطلب من ركاب الدرجة الأولى الذهاب لمقطورة الدرجة السياحية لنفاد المقاعد!
لكنني بقيت بعيدة عن كل تلك الضجة ، ولو أنها كانت ستكون أفضل بكثير من مكب النفاية الذي كنت أنبش حروفه!
وصلت لمحطتي الأخيرة – نزلت سريعاً واتجهت لمحطة قطار الأنفاق التي كنت آمل أن توصلني للمطار بحسب الخطة التي اطمأننت لها البارحة ، ابتعت التذكرة وتوجهت إلى حيث يجب أن يكون القطار ، شعرت بوخزٍ في قلبي يجبرني على إعادة التفكير، سألت اثنين بقربي طلبا مني التأكد من الخريطة! لكنني كنت قد حفظت الخريطة من كثرة ما تأملتها!
قررت أن لا اصعد للقطار وأنتظر كما املى علي قلبي، ثم خطرت لي فكرة أن أقف قريباً من السلالم أنتظر شخصاً محملاً بحقائب تشي بتشابه وجهتينا ، كنت أحمل حقيبة ظهر واسحب ورائي أخرى صغيرة
وأخيراً رأيت هدفي، رجل آسيوي يبدو وكأنه هندي ، يجر ويحمل حقائب كثيرة ، سألته ان كان هذا القطار سيحملني للمطار مباشرة كما تقول الخريطة ، قال لي أنه متوجه أيضاً للمطار لكن وللأسف فبسبب الاصلاحلات في شبكة الأنفاق فالقطار لن يصل اليوم للمطار وعلينا أن نسلك خطة أخرى تقضي بتبديل القطار مرتين ثم أخذ الحافلة لمحطة ثالثة!
كان قلبي محقاً إذن!
تأكدت منه مرة أخرى وحفظت المسار الجديد .. لم يكن تغييراً صعباً على أية حال ، اللافتات واضحة والأمور سهلة
في الحافلة ، أكلت قطعة كعك بعد جوع طويل منذ أفطرت هذا الصباح!
جولة أخيرة في القطار ثم أصبحت في المطار.. لدي أكثر من ثلاث ساعات قبل موعد الطائرة ، تناولت شطيرة ومشروب غازي ، ابتعت تذكاراً لأخي وبعض الشوكولاتة وأنهيت الاجراءات ثم وجدت كرسياً أمام البوابة ريثما يتم فتحها ، شعرت بالملل!
لماذا كنت بكل ذلك الغباء فلم أحضر كتاباً غيره؟ لا يوجد شبكة انترنت .. أو ربما لا أعرف كيف أصل لواحدة ، ولا يوجد ما أفعله سوى الكتابة هنا
هل أشعر بالحماسة لأنني عائدة؟ لا أدري حقاً!
لا أشعر بشيء الآن رغم أنني بحاجة لما يشغل دماغي ..!
أحب السفر .. وأحب كل هذه الاجراءات وكل الوجوه والمشاعر المعلقة في الهواء .. هذه هي المرة الأولى التي لم يوصلني فيها أحد للمطار ، ولم يحمل عني حقائبي ويرشدني دون أن أتحمل مسؤولية معرفة الطريق!
كنت مترددة بعض الشيء ، لكن بدا لي الأمر سهلاً بل أسهل حتى من مرافقة أحدهم ، فليس أجمل من أن يملك المرء أمره كله بيده!
فتحت البوابة ودخلت .. وأجلس الآن على كنبة جلدية حمراء جميلة مقابل الحائط الزجاجي المطل على مهبط الطائرات ، تفرد أجنحتها تشق بها عباب السماء لتلقينا في أحضان من نحب وبركات صلواتهم!
الأضواء الملونة على الأرض أمامي تبدو ليلاً كأنها مجوهرات جميلة وأحجار كريمة تلبسها حسناء على فستان سهرتها الأسود .. ذكرني هذا المنظر بمنظر بومبي الهندية من نافذة الطائرة ليلاً ..
لماذا ينسحب الدم والهواء من رئتي الآن؟ ولماذا لا أشعر بحماسة الصباح ذاتها؟
لست أدري! – 20:45
---
01:35 جرينتش – 05:35 مسقط
مضت 4 ساعات تقريباً منذ حلقنا ، شاهدت فيلمين تقريباً وتناولت عشاءً طيباً
اشعر بقليل من الصداع والنعاس الذي يجعل عيني وأنفي تسيلان! .. الظلام يغلف كل شيء في الخارج ، فقد حصلت على مقعد مريح بجوار النافذة ، ولا أحد يجلس بجانبي .. الطيران العماني يتيح استخدام الهاتف النقال على متن الطائرة كما يوفر شبكة الانترنت لمن يريد بسعرٍ رمزي !
الأرض تبدو بعيدة كما أراها من خلال النافذة .. توجد شوارع تلمع كنحاسٍ مصهور وتجتمع حولها نقاط مضيئة صغيرة .. تذكرني بعروق الجسد، هل تجتمع الخلايا المهمة والفاعلة حول الشرايين والعروق الكبيرة الغنية؟
كما يجتمع البشر والحضارات حول الأنهار العظيمة ؟
بالأسفل أرى الآن مدينة كبيرة للغاية، ذهب خالص مرصع بالألوان ، تشبه طائرة ورقية هائلة الحجم بحبلٍ طويل يشد طرفها!
أو كفراشة عملاقة ربما هي ملكة الفراشات جميعاً على كوكب الأرض.. تحلم بها صغيرات الفراش وتتمنى كل واحدة منهن في سرها لو تكبر لتغدو مثلها ، تهبط من السماء في الليالي المعتمة فيتبخر الخوف كله ويعم الفرح!
انطفأت الأرض كلها الآن .. كما الأجواء حولي في الطائرة ، فكل من استطيع رؤيتهم يغطون في نومٍ طويل!
الأضواء التي تخبو ثم تعود لتظهر على قشرة الأرض – تشبه المشاعر! وتشبه الفرح الذي يولد ويموت
وتشبه الألم الذي اشعر به في أحيان كثيرة يجتاح جسدي، فيبذر تلك البقع الأرجوانية على أطرافي ويبكيني ألماً على عظام ساقي التي تطحن تحت أقدامه ، ثم ما يلبث إلا أن يختفي في صباحٍ آخر فلا أجد له أثراً!
وأتسائل إن كان خيالي المجنون قد أنجبه في لحظة تهور لا أكثر!
* *
لماذا لا يوفرون خدمة سطح الطائرة! يجعلون لها طابقاً إضافياً له سقف شفاف من زجاج .. نستطيع الجلوس والاستلقاء تحته وتأمل السماء والنجوم والتحليق في فضاء لا يدركه أحد معنا..
اشتاق لأن أفعل هذا .. وأعطي أي شيء لأرى سماءً مكتظةً بالنجوم ولو لمرة واحدة قبل أن أفارق هذه الحياة !
--
02:00 جرينتش – 06:00 مسقط
ذهبت لغسل وجهي .. أشعر بالانتعاش الآن .. وأشعر بأنني مستعدة للنزول لأرضي التي أحب
لربما كنت متعبةً إذن!
أشعر بالعطش الآن لكنني لا أريد شرب أي شيء .. أود لو أستطيع أن أمدد جسدي على المساحة الفارغة أمامي ..
لكن الركاب متعبون على ما يبدو وليسوا في حاجة إلى نوبة من الجنون تثير هلعهم!
*
يااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااه !
ما أجمل الشفق الأحمر! الشريط الأحمر الغني يفصل بين السماء والأرض
البساط الأحمر الذي سترتقي منه الشمس للسماء وترضع الكائنات دفئها الحنون!
أحمر ثم يصفو ليصل لأزرق السماء
مذهل!
يثير حتى ذهول الدمع ليجتمع على شرفات العيون وينظر!
وأنا في هذه المركبة ككوكب تستيقظ الشمس أخيراً لتمسك كفي المرتجفة وترشدني إلى الطريق .. إلى حيث تصلي أمي الآن لتضمني لصدرها بعد ساعتين!
*
الأرض بالأسفل تبدو غريبة ولكن ليست واضحة جداً بسبب بقايا العتمة ، سأستجدي نظارتي العون لعلها تنقل لي بعض أسرار أرض العجائب هذه!
وهي أرض العجائب بالفعل ، فقد أخبرني زجاج النظارة عن أكوامٍ من غيم مشيّد يحرسه عمالقة أشداء ، يخفي تحته قصوراً من أروع ما كان سيكون ، مصنوعةً من أحجار جاءوا بها من جنةٍ بعيدة ويقال أنها من قلب الشمس ..
وعندما تنظر أطول علك تلتقط وجهاً أو ظلاً فإن السماء تهبط فوق الغيم مباشرة وتلهيك النجوم ، فهي أرض سرية للغاية ، ولذلك لا تحلق عليها الطائرات إلا ليلاً!
صدقوني!
*
الغيوم بالأسفل غابة رمادية كثيفة .. والأفق بحرٌ من البرتقال ينعش الزرقة!
جناح الطائرة قريباً مني يبدو كـ فك تنينٍ لم يتخلص من أسنانه اللبنية بعد ، يحلق بي لمستوىً مرتفع جداً لم أصله قبلاً .. وأتمنى لو أنفلت منه لعلوٍّ أكبر
هل يا ترى سأموت قبل أن أرى الأرض من الخارج؟
وهل سيوفر لي الموت ذلك؟
هل سيرتفع بروحي عالياً جداً في الفضاء عبر سنواته الضوئية الكثيرة؟
هل تصير الأرواح نجوماً أو ضوءً؟
أم هل هي لا تجوب الفضاء ولكن فقط تذهب لسماء أخرى لا تعرف أحلامي الكثيرة؟!
*
أجلس بجانب بوابة الخروج الاضطراري
خطر لي أكثر من مرة أن أنهض من مكاني وأفتحها ، هل سيسمح ضغط الطائرة بذلك؟
هل ستطلق صفيراً قبل أن أتمكن من فعلها؟
يقول ملصق صغير بجانبي: (اسحب الغطاء للفتح)
خطر لي ذلك! لا أدري لماذا يعبث ابليس بعقلي دائماً!
عندما كنت صغيرة ، كان يهمس لي أن أقفز عن سطح المنزل كلما اعتليته لتأمل السماء والتسامر معها
لكن ما الذي أبقاني سنين طويلة لا أستمع إليه؟ ولماذا صددته الآن؟
اذكر أنني كنت صغيرة .. دخلت المطبخ بعد الظهر لأشرب الماء والكبار ينعمون بقيلولة ، أشار شيطاني الخبيث تجاه سكينٍ حادة وهمس لي: (كيف يكون شعور الألم يا ترى!
وهل يثيره سيلان الدم؟ جربي لنعرف معاً!)
اقتربت ، اخترت سكين الفاكهة الحادة ومررت وجه ابهامي على حدها!
قفزت كل حواسي من مكانها وشعرت بلسعٍ في كل أطرافي، أرجعت السكين وبقيت أنظر إلى اصبعي تسيل منه خيوط دمٍ نقي .. غسلته وخرجت من المطبخ وكأن شيئاً لم يكن .. لا زلت أذكر هذه الحادثة جيداً ، أما لماذا فعلت ذلك فلا أدري! ما أعرفه هو أنني لم أكررها .. أبداً!
كنت دائماً أشعر بأنني فتاة جيدة لأن لدي هذا الشيطان الرجيم ولا أمكنه مني ، فلو أنني لم أكن عاقلة لكنت مجرمة لا محالة!
*
أسراب كثيرة من السحاب تنام بالأسفل ، تحتضن الأمهاتُ الصغارَ وينامون جميعاً في دعة ، حتى اذا اكتمل الصباح حلقوا جميعاً
الطفل قريباً مني يبكي بحرقة في حضن امه ولا تسكته! تباً!
والده يساعدها في صنع حليب له بينما تأفف الجيران ذوي الرؤوس الصفراء ..
..
