في المدرسة
والجامعة، التقيت فتياتٍ كثيراتٍ جدًا من خلفيات ثقافية مختلفة، يختلفن اختلافًا
شاسعًا عمّا اعتدت عليه في عالمي الصغير المحدود بعائلتي وبيوت الجيران القليلة،
كنت أستمع لأحاديثهن فأعجب، نغم الكلام ومصطلحاتهن الغريبة، ملامح الوجه، اختلاف
أحجام الكفوف والأصابع وحركاتها، كلها كانت عوالم جديدة، في بعض الأحيان أو في
أغلبها، لم أكن أفهم كيف يقدم انسان على التفكير بطريقةٍ معينة لا أراها منطقية
جدًا بالنسبة لي.. ثم قررت أن أفعل شيئًا
كنت اذا صادفتُ
إحداهن، أخذت نفسًا وشعرتُ بنفسي أتقمص ملامحها، وكأنني أرتديها قناعًا بيني وبين
نفسي، فأشعر فجأة بانكماش في دماغي، وأستطيع – أو هكذا يُخيّل إلي- أن أفهم طريقة
تفكيرها، في أحيان كثيرة كان هذا يجدي نفعًا وأستطيع بعدها التفاهم مع كثيرين، أو
جعلهم يميلون إلى اعتباري شخصًا متفهمًا، يلجأون إليه، وبقيتُ على حالي هذا سنوات
طويلة، الآن لم أعد أقوم بحيلتي الغريبة الأطوار هذه كثيرًا، أتذكرها فقط
بابتسامة، لكنني أصدقها أيضًا
تذكرتها اليوم
وأنا أفكر في أشخاص التقيتهم بعد مرحلة الجامعة الأولى، أكثر اختلافًا وغرابة، هذا
العالم يتسع أسرع من قدرتي على المواكبة والاستيعاب، لكنني أحاول، المهم، أنني
تذكرت تقمصي لملامح الآخرين الذين لا أفهمهم، اليوم لا أفعل هذا، فمجرد أن أراهم،
تخطر في ذهني صورة، أو أرى مشهدًا، وكأن دماغي طوّر لنفسه طريقته الخاصة في الفهم
والتمييز، أرى بعض الناس يتخبطون بين أنفسهم وآخرين حولهم، يتخبطون بين ألف ألف
طريق، ثم إذا تعبوا، قرروا أن يريحوا أنفسهم، وأن يشتروا قالبًا سهلًا مُباركًا،
ثم يصيرونه دون عناء، أو يصيرهم هو، يصبحون شيئًا واحدًا، أنا لا أميل لهؤلاء
كثيرًا، منشوراتهم تطفو على صفحاتي كبقايا الطعام والخردوات على صفحة النهر أو
البحر، شيءٌ مستهلك، ملوث، وضار! حتى لو لم يسببوا ضررًا حقيقيًا لي ساعتها
آخرون رغم
التنوع الشاسع في أراواحهم، يتمسكون بخيطٍ واحد، بعصبيّة تزعجني أيضًا، ينصرونه
دون غيره، يفقأون أعينهم بأصابعهم عما سواه، ويدافعون عنه حتى الموت، يكتبون الكتب
والروايات ويقيمون الأمسيات، يمجدون وجهًا واحدًا، هؤلاء أيضًا لا أميل لهم، لا
أقول أن أيًا من هؤلاء البشر على خطأ، لربما كنت أنا على خطأ، لكن من حيث أنا
الآن، وكلما قرأت لهم أو صادفت غضبهم وحماستهم، أشعر بشيء ثقيل يسقط على صدري،
بعضهم يحاول
مرة أن يرتدي قالبًا ، ومرة أن يمسك خيوط الآخرين معهم، أو ينزوي لنفسه يبحث عن
خيطٍ خاص، مشتتون كلما رأيتهم شعرت بصداعٍ يذكرني بالتشتت الباقي في ناحيةٍ قصية
من صدري ككومة متشابكة من الخيوط
الآن، لم أعد
أضع وجوههم على وجهي، لكن يكفي أن أرى صورهم، أو أن أقرأ لهم، لتطفو مشاعري
بالغثيان أو أشعر بالصداع أو بثقلٍ على صدري، أحيانًا وعلى العكس، يزهر ياسمينٌ
جميل على رأسي وعيني وقلبي!
أحاول دائمًا
أن أتقبل أن العالم لم يعد صغيرًا محصورًا بخيالي وعائلتي والجيران الذين ما عادوا
جيراني!
وأنه واسعٌ
ممتد، ومتنوع، أكثر تنوعًا من خيالاتي وجنوني
دون أن أرفض
أيضًا فلسفة دماغي وسعيه الدائم لإيجاد طرقه الخاصة في تمييزهم وتصنيفهم ورسمهم
وبين هذا وهذا،
أظن أنني أكون
14:15
26 مايو 15
يورك